صحيح أنّ اللبنانيين تنفّسوا الصعداء صباح يوم الأربعاء الماضي، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل حيّز التنفيذ، برعاية أميركية وفرنسية، ليضع حدًا لحربٍ دموية وعبثية استمرّت زهاء سنة وشهرين، بدأت بعنوان "الإسناد" للشعب الفلسطيني المُحاصَر في قطاع غزة، قبل أن ترتقي لمستوى عدوان وحشيّ وهمجيّ، كانت فاتورته البشرية والاقتصادية "ثقيلة" على لبنان، بصرف النظر عن نتائجه على المستوى السياسي.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ سريان اتفاق وقف إطلاق النار، لم ينعكس تلقائيًا، كما كان يعتقد كثيرون، وقفًا كاملاً للأعمال العدائية والعسكرية، إذ إنّ الأيام الماضية كانت حافلة بالخروقات والانتهاكات الإسرائيلية للاتفاق، سواء عبر عمليات القصف التي استمرّت في أكثر من منطقة جنوبية، أو عبر عمليات نسف وهدم المباني في بعض البلدات، التي لم ينحسب منها الجيش الإسرائيلي بعد، أو حتى عبر منع أهالي الكثير من القرى الجنوبية من العودة إلى منازلهم.
يترافق كلّ ذلك مع تصريحات إسرائيلية مكثّفة، يمكن إدراجها في خانة "الحرب النفسية" التي تستمرّ فصولاً مع "حزب الله"، عن أنّ الاتفاق "مؤقت"، وقد لا يكون طويل الأمد، وفق ما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي، وهو الذي سعى منذ ما قبل إعلان الموافقة على الاتفاق، على الترويج لصورة "النصر" عبر الحديث عن "حرية حركة" ستحتفظ بها إسرائيل، ولو أنّ النصّ الحرفي لم يلحظها، لما ينطوي عليه من مسّ بالسيادة.
وبعدما التزم "حزب الله" بما وُصِف بـ"الصمت السياسي والعسكري" على مدى ستة أيام، وبدا كمن "ينأى بنفسه" عن الخروقات، خرج يوم الإثنين بما أسماه "ردًا دفاعيًا أوليًا تحذيريًا"، استهدف من خلاله موقع رويسات العلم التابع للجيش الإسرائيلي في تلال كفرشوبا اللبنانية المحتلة، ما فتح الباب أمام طرح علامات استفهام جدّية حول احتمالات "انهيار" اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتالي عودة الحرب من حيث انتهت.
في المبدأ، يضع العارفون الخروقات والاستفزازات الإسرائيلية المتواصلة، على الرغم من سريان اتفاق وقف إطلاق النار، والتي سجّلت رقمًا قياسيًا في الساعات الماضية، في خانة محاولة إسرائيل التأكيد أنّها لا تزال "تتحكّم" بمجريات الميدان، وأنها لا تزال "مطلقة اليدين" في مكانٍ ما، وفي ذلك ربما محاولة للردّ على الاعتراضات التي اصطدمت بها في الداخل الإسرائيلي، عن كونها "خضعت" لشروط "حزب الله"، بدل استغلال الفرصة لاستكمال القضاء عليه.
فعلى الرغم من أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي استبق المصادقة النهائية على الاتفاق، بتصريحاتٍ أراد من خلالها التأكيد على مقاربته للاتفاق من منطلق القوة لا الضعف، بالتوازي مع ضربات غير مسبوقة وُصِفت بـ"المجنونة"، إلا أنّ ردّة الفعل في الداخل الإسرائيلي لم تكن كما اشتهت سفن الرجل، حيث وصفته المعارضة بـ"الاستسلامي"، في حين أنّ من أيّده، دعا إلى "استنساخ" التجربة في قطاع غزة، حيث استنفدت الحرب أهدافها أيضًا.
وإلى ردّة الفعل السياسية، جاءت ردّة فعل المستوطنين لتزيد من "الحَرَج" الإسرائيلي، إن صحّ التعبير، إذ رفض هؤلاء العودة إلى بيوتهم، رغم كلّ المغريات، بانتظار "ضمانات" لا يبدو أنّها تحققت، في حين كان المشهد "معاكسًا" على الضفة الأخرى، إذ كان أهالي الجنوب ينطلقون نحو قراهم، بدءًا من الساعة الرابعة من فجر الأربعاء، من دون أن يكترثوا حتى لبقاء الجنود الإسرائيليين في بعض القرى، وقد تحدّث الاتفاق عن "انسحاب تدريجي" منها.
لكلّ هذه الأسباب، تُفهَم الخروقات من زاوية أنّ إسرائيل تريد القول إنّها باقية على جاهزيتها للتصدي لأي انتهاك إسرائيلي للاتفاق، أو محاولة للالتفاف عليه، ولكن أيضًا من زاوية أنها تريد دحض فرضية "الانتصار" التي يروّج لها الحزب، عبر الحديث عن "صمود أسطوري" فرض على الإسرائيليين الإذعان، وهو ما تفرغه من مضمونه، باعتبار أنّ الحزب يعجز عن فرض "العودة المباشرة" لأهالي الجنوب، بانتظار أن يحدّد الإسرائيليون حصرًا توقيتها.
لا يعني ما تقدّم أنّ الكلمة ستعود للميدان، وأنّ الحرب ستستعيد موازينها، بصورة أو بأخرى، فعلى الرغم من أنّ هناك من يرى في الخروقات الإسرائيلية نوعًا من "الإذلال" لـ"حزب الله"، وهو ما دفعه ربما إلى الردّ عليها، إلا أنّ هذا الردّ لا يبدو وفقًا للعارفين، كسرًا لسياسة "النأي بالنفس" التي يعتمدها منذ الأربعاء الماضي، بل هو أقرب إلى "رفع العتب" في مكان ما، ولا سيما أنه تعمّد أن يكون في منطقة مفتوحة، وعلى أراضٍ لبنانية محتلّة.
في هذا السياق، يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الأخير الذي يحرص على التأكيد على "الانتصار" الذي حقّقه في المعركة، بدليل صموده حتى اليوم الأخير رغم الخسائر القاسية التي مني بها، ومنها اغتيال أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، ليس بوارد الذهاب إلى توسيع المعركة في الوقت الحالي، ولكنه وجد نفسه في موقف "محرج" بعد تغاضيه عن الانتهاكات المتواصلة، بانتظار أن تتعامل الدولة مع الأمر، وفق الآلية التي نصّ عليها الاتفاق أساسًا.
ويشبّه العارفون وضعيّة الحزب حاليًا، بوضعيّته خلال مرحلة "جبهة الإسناد" التي كان يحصرها في إطار قواعد اشتباك محدّدة، لم يخرج عنها حتى حين تمادت إسرائيل في استفزازاتها، وحين اغتالت عددًا من كبار قادته العسكريين، حيث بقيت ردوده مفصّلة على قياس عدم الذهاب إلى حرب موسّعة، وعدم إعطاء إسرائيل "ذريعة" لتوسيع المعركة، بل إنّ هناك من يقول إنّ الحزب لم يعدّل في استراتيجيته هذه، حتى 27 أيلول، يوم اغتيال السيد نصر الله.
بهذا المعنى، فإنّ الحزب فصّل ردّه على الانتهاكات الإسرائيلية على مقاس عدم الذهاب إلى حرب، وهو ما قصده بحديثه عن ردّ "تحذيري أولي" ليس أكثر، ولو أقرنه بعبارة "أعذر من أنذر" التي أراد من خلالها التأكيد على المعادلة نفسها التي اعتمدها في مرحلة "جبهة الإسناد"، من حيث إنّه لا يريد الذهاب إلى الحرب، ولكنه جاهز إذا ما فُرِضت عليه، ولعلّه بذلك يريد رمي الكرة تحديدًا في ملعب الأطراف الدولية المعنية، ولا سيما الأميركيين والفرنسيّين.
وعلى الرغم من أنّ الخشية مشروعة من إمكانية انهيار الاتفاق بنتيجة الخروقات الحاصلة، ثمّة في الأوساط اللبنانية من يعتقد أنّ الأمور لا تزال "مضبوطة" إلى حدّ بعيد، فخطوة "حزب الله" تشكّل في مكان ما ضغطًا على الجهات الدولية، وعلى آلية المراقبة المفترضة التي لم تبدأ عملها بعد، في حين أنّ إسرائيل تريد استغلال مهلة الستين يومًا حتى الرمق الأخير، للقول إنّها بقيت "الآمر والناهي"، بل إنها من حدّدت للجنوبيين "توقيت" عودتهم.
في المجمل، وبعيدًا عن هذه التكتيكات التي قد تندرج في سياق "الحرب النفسية" بصورة أو بأخرى، ثمّة من يقول إنّ الطرفين يبقيان معنيَّين بالمحافظة على الاتفاق، فإسرائيل لم توقّع عليه لتنسفه، ولو لمّحت إلى أنه قد يكون مؤقتًا. إلا أنّ الخشية تبقى مشروعة من أي خطوة غير محسوبة، أو دعسة ناقصة، قد تعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ولو أنّ الرهان يبقى على آلية المراقبة، ولا سيما على الأميركيين، لمنع "الإطاحة" بما يعتبرونه "إنجازهم"!.